فصل: النَّوع السَّابع والعِشْرون: معرفة آداب المُحدِّث

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تدريب الرَّاوي في شَرْح تَقْريب النَّواوى ***


النَّوع السَّابع والعِشْرون‏:‏ معرفة آداب المُحدِّث

علمُ الحَديثِ شريفٌ‏,‏ يُنَاسب مَكَارم الأخْلاقِ‏,‏ ومَحَاسن الشِّيَم‏,‏ وهو من عُلوم الآخِرَةِ‏,‏ من حُرِمهُ حُرِمَ خَيْرًا عَظيمًا‏,‏ ومن رُزقهُ نالَ فَضْلاً جَزِيلاً‏.‏

النَّوع السَّابع والعِشْرُون‏:‏ معرفة آداب المُحدِّث‏.‏

علم الحديث شريف وكيف لا وهو الوصلة إلى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، والباحث عن تصحيح أقْوَاله‏,‏ وأفْعَاله‏,‏ والذَّب عن أن يُنسب إليه ما لم يقلهُ‏,‏ وقد قيل في تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 71‏]‏ ليس لأهل الحديث مَنْقبة أشْرف من ذلك‏,‏ لأنَّه لا إمام لهم غيره صلى الله عليه وسلم، ولأنَّ سائر العلُوم الشَّرْعية مُحتاجة إليه‏,‏ أمَّا الفقه فواضح‏,‏ وأمَّا التَّفسير فلأنَّ أولى ما فُسِّر به كلام الله تعالى ما ثبتَ عن نَبيِّه صلى الله عليه وسلم، وأصحابه رضي الله عنهم‏.‏

وهو علم يُنَاسب مكارم الأخلاق‏,‏ ومحاسن الشِّيم ويُنافر ضد ذلك وهو من عُلوم الآخرة المحضة‏,‏ بخلاف غيره في الجملة‏.‏

قال أبو الحسن شبويه‏:‏ من أراد علم القبر فعليه بالأثر‏,‏ ومن أراد علم الخبز فعليه بالرأي‏.‏

من حُرمه‏,‏ حُرم خيرًا عظيمًا‏,‏ ومن رُزقهُ نالَ فَضْلاً جَزِيلاً ويكفيه أنَّه يدخل في دَعْوتهِ صلى الله عليه وسلم حيث قال‏:‏ «نَضَّر الله أمرأً سمعَ مَقَالتي فوعَاهَا‏.‏‏.‏‏.‏»‏.‏

قال سُفيان بن عُيينة‏:‏ ليسَ من أهل الحديث أحد‏,‏ إلاَّ وفي وجهه نضرة لهذا الحديث‏.‏

وقال‏:‏ «اللهمَّ ارْحَم خُلفائي»‏.‏ قيل‏:‏ ومَنْ خُلفاؤك‏؟‏ قال‏:‏ «الَّذين يأتُون من بَعْدي‏,‏ يَرْوون أحَاديثي وسُنَّتي»‏.‏ رواه الطَّبراني وغيره‏.‏

وكأنَّ تلقيب المُحدِّث بأمير المؤمنين‏,‏ مأخوذ من هذا الحديث‏,‏ وقد لُقِّب به جماعة‏,‏ منهم‏:‏ سُفيان‏,‏ وابن راهويه‏,‏ والبُخَاري وغيرهم‏.‏

فَعلَى صَاحبهِ تَصْحيحُ النِّيَّة‏,‏ وتَطْهيرُ قلبه من أغْرَاض الدُّنيا‏,‏ واخْتُلف في السِّن الَّذي يتصدَّى فيه لإسْمَاعه‏.‏

فعلى صاحبه تصحيح النية وإخْلاصها وتَطْهير قلبه من أعراض الدُّنيا وأدْنَاسها‏,‏ كحبِّ الرِّياسة ونحوها‏,‏ وليكن أكبر همه نشر الحديث والتَّبْليغ عن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، فالأعمال بالنِّيات‏.‏

وقد قال سُفيان الثَّوري‏:‏ قلتُ لحبيب بن أبي ثَابت‏:‏ حدِّثنا‏,‏ قال‏:‏ حتَّى تجيء النية‏.‏

وقيلَ لأبي الأحوص سَلاَّم بن سليم‏:‏ حدِّثنا‏.‏ فقال‏:‏ ليس لي نية‏,‏ فقالوا له‏:‏ إنَّك تُؤجر‏,‏ فقال‏:‏

يُمنُّوني الخير الكثير وليتني نَجَوتُ كفافًا لا علي ولا ليا

وقال حمَّاد بن زيد‏:‏ أستغفر الله‏,‏ إنَّ لذكر الإسْنَاد في القَلْب خُيلاء‏.‏

واختُلف في السِّن الَّذي يحسن أن يتصدَّى فيه لإسْمَاعه فقال ابن خلاَّد‏:‏ إذَا بلغَ الخمسين‏,‏ لأنَّها انْتهاء الكُهولة‏,‏ وفيها مُجْتمع الأشد‏.‏

قال‏:‏ ولا يُنكر عند الأربعين‏,‏ لأنَّها حد الاستواء‏,‏ ومنتهى الكمال‏,‏ وعندها ينتهي عزم الإنسان وقوته‏,‏ ويتوفر عقله‏,‏ ويجود رأيه‏.‏

وأنكر ذلك القاضي عياض وقال‏:‏ كم من السَّلف فمن بعدهم من لم ينته إلى هذا السن‏,‏ ونشرَ من الحديث والعلم ما لا يُحصَى‏,‏ كعمر بن عبد العزيز‏,‏ وسعيد بن جُبير‏,‏ وإبراهيم النَّخعى‏,‏ وجلس مالك للنَّاس ابن نيف وعِشْرين‏,‏ وقيلَ‏:‏ ابن سبع عشرة سَنَة‏,‏ والنَّاس مُتوافرُونَ‏,‏ وشُيوخه أحْياء‏,‏ رَبيعة‏,‏ والزُّهْري‏,‏ ونافع‏,‏ وابن المُنْكدر‏,‏ وابن هُرْمز‏,‏ وغيرهم‏,‏ وكذلك الشَّافعي وأئمة من المُتقدِّمين والمُتأخِّرين‏,‏ وقد حدَّث بُنْدار‏,‏ وهو ابن ثماني عشرة‏,‏ وحدَّث البُخَاري وما في وجهه شعرة‏,‏ وهلمَّ جرًّا‏.‏

وقال ابن الصَّلاح‏:‏ ما قاله ابن خلاَّد محله فيمن يُؤخذ عنهُ الحديث لمجرَّد الإسْنَاد‏,‏ من غير براعة في العلم‏,‏ فإنَّه لا يحتاج إليه لعلو إسْنَاده‏,‏ إلاَّ عند السِّن المذكور‏,‏ أمَّا من عنده براعة في العلم‏,‏ فإنَّه يُؤخذ عنه قبل السن المذكور‏.‏

والصَّحيح أنَّه مَتَى احْتِيجَ إلى ما عندهُ‏,‏ جلسَ له‏,‏ في أي سنٍّ كانَ‏,‏ ويَنْبغي أن يُمْسك عن التَّحْديث إذا خَشِيَ التَّخليط بهَرَمِ‏,‏ أو خَرَفٍ‏,‏ أو عَمى‏,‏ ويَخْتلفُ ذلك باختلاف النَّاس‏.‏

قال‏:‏ والصحيح أنَّه متى احتيج إلى ما عنده جلس له في أي سن كان‏.‏

وينبغي أن يُمْسك عن التَّحديث إذا خَشِيَ التَّخليط بهرمٍ‏,‏ أو خَرَفٍ‏,‏ أو عمى‏,‏ ويختلف ذلك باختلاف النَّاس وضبطهُ ابن خلاَّد بالثَّمانين‏,‏ قال‏:‏ والتَّسبيح والذِّكر وتِلاوة القُرْآن أولى به‏.‏

فإن يكن ثابت العقل‏,‏ مجتمع الرَّأي فلا بأس‏,‏ فقد حدَّث بعدها أنس‏,‏ وسَهْل بن سعد‏,‏ وعبد الله بن أبي أوْفَى‏,‏ في آخرين‏,‏ ومن التَّابعين‏:‏ شُريح القاضي‏,‏ ومُجَاهد‏,‏ والشَّعبي‏,‏ في آخرين‏,‏ ومن أتباعهم‏:‏ مالك‏,‏ واللَّيث‏,‏ وابن عُيينة‏.‏

وقال مالك‏:‏ إنَّما يخرف الكذَّابون‏.‏

وحدَّثَ بعد المئة من الصَّحابة‏:‏ حكيم بن حِزَام‏,‏ ومن التَّابعين‏:‏ شريط النَّمري‏,‏ وممَّن بعدهم‏:‏ الحسن بن عرفة‏,‏ وأبو القاسم البَغَوي‏,‏ والقاضي أبو الطَّيب الطَّبري‏,‏ والسَّلفي وغيره‏.‏

فصلٌ‏:‏ الأوْلَى أن لا يُحدِّث بِحَضْرة مَنْ هُو أوْلَى منهُ‏,‏ لسنِّه‏,‏ أوْ عِلْمهِ‏,‏ أو غَيْرهِ‏,‏ وقيلَ‏:‏ يُكْرهُ أنْ يُحدِّث في بلدٍ فيهِ أوْلَى منهُ‏,‏ ويَنْبغي لهُ إذَا طُلبَ منهُ ما يعلمهُ عندَ أرْجحَ منهُ‏,‏ أنْ يُرْشد إليهِ‏,‏ فالدِّينُ النَّصيحةُ‏.‏

فصل‏:‏ الأوْلَى أن يُحدِّث بحضرة من هو أوْلَى منهُ‏,‏ لسنِّه‏,‏ أو علمه‏,‏ أو غيره كأنَّه يَكُون أعْلَى سَندًا‏,‏ أو سماعه مُتصلاً‏,‏ وفي طريقه هو إجَازة‏,‏ ونحو ذلك‏.‏

فقد كان إبْرَاهيم النَّخعي لا يتكلَّم بحضرة الشَّعبي بشيء‏.‏

وقيلَ‏:‏ أبلغ من ذلك يُكْره أن يُحدِّث في بلدٍ فيه أوْلَى منه‏.‏

فقد قال يحيى بن مَعِين‏:‏ إنَّ من فعل ذلك فهو أحمق‏.‏

ويَنْبغي له إذَا طُلب منهُ‏,‏ ما يعلمه عند أرجح منهُ أن يُرشد إليه‏,‏ فالدِّين النَّصيحة‏.‏

قال في «الاقتراح»‏:‏ يَنْبغي أن يَكُون هذا عند الاسْتواء فيما عدا الصِّفة المُرجَّحة‏,‏ أمَّا مع التفاوت بأن يكُون الأعلى إسْنَادا عاميًا‏,‏ والأنزل عارف ضابط‏,‏ فقد يتوقف في الإرشاد إليه‏,‏ لأنَّه قد يَكُون في الرِّواية عنه ما يوجب خللاً‏.‏

قلت‏:‏ الصَّواب إطلاق أنَّ التَّحديث بحضرة الأوْلَى ليس بمكروه‏,‏ ولا خِلاف‏,‏ فقد استنبط العُلماء من حديث‏:‏ إنَّ ابني كان عَسيفًا‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث‏,‏ وقوله‏:‏ سألتُ أهل العلم فأخبروني‏.‏‏.‏‏.‏ أنَّ الصَّحَابة كانُوا يُفتون في عهد النَّبي صلى الله عليه وسلم وفي بلده‏.‏

وقد عقد محمَّد بن سعد في «الطَّبقات» بابًا لذلكَ‏,‏ وأخرج بأسانيد فيها الواقدي‏:‏ أنَّ أبا بكر‏,‏ وعُمر‏,‏ وعُثمان‏,‏ وعليًّا‏,‏ وعبد الرَّحمن بن عوف‏,‏ وأُبيِّ بن كعب‏,‏ ومعاذ بن جبل‏,‏ وزيد بن ثابت‏,‏ كانوا يُفتون في عهد النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وروى البَيْهقي في «المدخل» بسند صحيح عن ابن عبَّاس‏,‏ أنَّه قال لسعيد بن جُبير‏:‏ حَدِّث‏.‏ قال‏:‏ أُحدِّث وأنت شاهدٌ‏؟‏ قال‏:‏ أو ليس من نِعَم الله عليك أن تُحدِّث وأنا شاهد‏,‏ فإن أخطأت علمتك‏.‏

تنبيه‏:‏

إذا كانَ جَمَاعة مُشْتركون في سماع‏,‏ فالإسماع منهم فرضُ كفاية‏,‏ ولو طُلب من أحدهم فامتنع لم يأثم‏,‏ فإن انْحَصرَ فيه أثِمَ‏.‏

ولا يَمْتنع من تَحْديث أحد لِكَونهِ غيرَ صَحيح النِّيَّة‏,‏ فإنَّه يُرجَى صحَّتُها‏,‏ وليَحْرص على نَشْرهِ‏,‏ مُبْتغيًا جَزِيلَ أجْرهِ‏.‏

ولا يمتنع من تحديث أحد لكونه غير صحيح النية‏,‏ فإنَّه يرجى له صحتها بعد ذلك‏.‏

قال مَعْمر‏,‏ وحبيب بن أبي ثابت‏:‏ طلبنا الحديث وما لنا فيه نية‏,‏ ثمَّ رزق الله النية بعد‏.‏

وقال معمر‏:‏ إنَّ الرَّجُل ليَطْلُب العلم لغيرِ الله‏,‏ فيأبَى عليه العلم حتَّى يكون لله‏.‏

وقال الثَّوري‏:‏ ما كانَ في النَّاس أفضل من طالب الحديث‏,‏ فقيل‏:‏ يطلبونهُ بغير نية‏,‏ فقال‏:‏ طلبهم إيَّاه نية‏.‏

وليحرص على نَشْره مُبْتغيًا جزيل أجره فقد كان في السَّلف من يتألف النَّاس على حديثه‏,‏ منهم‏:‏ عُروة بن الزُّبَير‏.‏

ومن الأحاديث الواردة في فضل نشر الحديث والعلم حديث «الصَّحيحين»‏:‏ «بَلِّغُوا عَنِّي‏,‏ ليُبلغ الشَّاهد الغائب‏.‏‏.‏‏.‏»‏.‏

وحديث‏:‏ «مَنْ أدَّى إلى أُمَّتي حديثًا واحدًا‏,‏ يُقيمُ به سُنَّة‏,‏ أو يَرُد به بِدْعة‏,‏ فلهُ الجنَّة»‏.‏ رواه الحاكم في «الأرْبعين»‏.‏

وحديث البَيْهقي‏:‏ عن أبي ذَرٍّ أمرنا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أن لا نُغْلب على ثلاثٍ‏,‏ أن نأمُرَ بالمعرُوف‏,‏ ونَنْهَى عن المُنْكر‏,‏ ونُعلِّم النَّاس السُّنن‏.‏

فصلٌ‏:‏ ويُسْتحبُّ لهُ إذَا أرادَ حُضُور مَجْلس التَّحْديث‏,‏ أن يَتَطهَّر‏,‏ ويَتَطيَّب‏,‏ ويُسرِّح لحيتهُ‏,‏ ويَجْلس مُتَمكنًا بوقَارٍ‏.‏

فصلٌ‏:‏ ويُستحب لهُ إذَا أرادَ حُضور مجلس التَّحديث أن يتطهَّر بغسل ووضوء ويتطيَّب ويتبخَّر‏,‏ ويستاك‏,‏ كما ذكره ابن السَّمعاني ويُسرِّح لحيتهُ ويَجْلس في صَدْر مَجْلسهِ مُتمكنًا في جُلوسهِ بوقَار وهَيْبة‏,‏ وقد كان مالك يفعل ذلك‏,‏ فقيل له‏,‏ فقال‏:‏ أحبُّ أن أُعَظم حديث رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أُحدِّث إلاَّ على طهارة مُتمكنا‏,‏ وكان يكره أن يُحدِّث في الطَّريق‏,‏ أو وهو قائم‏,‏ أسنده البَيْهقي‏.‏

وأسند عن قَتَادة قال‏:‏ لقد كان يُستحب أن لا يقرأ الأحاديث إلاَّ على طَهَارة‏.‏

وعن ضِرَار بن مُرَّة قال‏:‏ كانوا يَكْرهون أن يُحدِّثوا على غير طُهْر‏.‏

وعن ابن المُسيب‏,‏ أنَّه سُئل عن حديث وهو مُضْطجع في مَرَضهِ‏,‏ فجلسَ وحدَّث به‏,‏ فقيل لهُ‏:‏ وددتُ أنَّك لم تتعن‏,‏ فقال‏:‏ كرهتُ أن أُحدِّث عن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مُضْطجع‏.‏

وعن بِشْر بن الحَارث‏:‏ أنَّ ابن المُبَارك سُئل عن حديث وهو يَمْشي فقال‏:‏ ليس هذا من تَوقير العِلْم‏.‏

وعن مَالك قال‏:‏ مَجَالس العِلْم تحتضر بالخُشُوع والسَّكينة والوقَار‏.‏

ويُكره أن يَقُوم لأحد‏,‏ فقد قيل‏:‏ إذَا قامَ القَارئ لحديث رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لأحد‏,‏ فإنَّه يكتب عليه بخطيئة‏.‏

فإن رفعَ أحدٌ صَوْتهُ زَبَرهُ‏,‏ ويُقْبلَ على الحَاضرينَ كُلهم‏,‏ ويَفْتتحُ مَجْلسهُ ويختتمهُ بتحميدِ الله تعالى‏,‏ والصَّلاة على النَّبي صلى الله عليه وسلم، ودُعاء يَليقُ بالحَال بعد قِرَاءة قَارئ حَسَن الصَّوت شَيئًا من القُرْآن العَظِيم‏,‏ ولا يَسْرد الحَدِيث سَرْدًا يَمْنعُ فهم بَعْضه‏.‏

فإن رفعَ أحد صَوْته في المَجْلس زبرهُ أي‏:‏ انتهرهُ وزجرهُ‏,‏ فقد كانَ مالك يفعل ذلك أيضًا ويقول‏:‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 2‏]‏ فمن رفع صوتهُ عند حديثه‏,‏ فكأنَّما رفعَ صوتهُ فوق صوته‏.‏

ويُقْبل على الحَاضرين كُلهم فقد قال حبيب بن أبي ثابت‏:‏ إنَّ من السُّنة إذَا حدَّث الرَّجُل القوم أن يُقْبل عليهم جميعًا‏.‏

ويفتتح مَجْلسه ويختمه بتحميد الله تعالى‏,‏ والصَّلاة على النَّبي صلى الله عليه وسلم ودُعاء يليق بالحال بعد قِراءة قارئ حسن الصَّوت شيئا من القُرآن العظيم‏.‏

فقد رَوَى الحاكم في «المستدرك» عن أبي سعيد قال‏:‏ كان أصْحَاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إذا اجتمعُوا تذاكرُوا العِلْم وقرؤوا سُورة‏.‏

ولا يَسْرُد الحديث سردًا عجلا يمنعُ فهم بعضه كما رُوي عن مالك أنَّه كان لا يستعجل ويقول‏:‏ أُحب أن أفهم حديث رَسُول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وأورد البَيْهقي في ذلك حديث البُخَاري عن عُروة قال‏:‏ جلسَ أبو هُريرة إلى جنب حُجْرة عائشة وهي تُصلِّي‏,‏ فجعلَ يُحدِّث‏,‏ فلمَّا قضت صَلاتها قالت‏:‏ ألا تعجب إلى هذا وحديثه‏,‏ إنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم إنَّما كان يُحدث حديثًا‏,‏ لوعدَّه العاد أحصاه‏.‏

وفي لفظ عند مسلم‏:‏ إنَّ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يَسْرُد الحديث كسردكم‏.‏

وفي لفظ عند البَيْهقي عقيبه‏:‏ إنَّما كان حديثه فصلاً‏,‏ تفهمه القُلوب‏.‏

فصلٌ‏:‏ يُستحبُّ للمُحدِّث العَارف عَقدُ مَجْلسٍ لإمْلاء الحَدِيث‏,‏ فإنَّه أعْلَى مَرَاتبِ الرِّواية‏,‏ ويَتَّخذُ مُسْتمليًا مُحصلاً مُتَيقِّظًا يُبلِّغ عنهُ إذَا كثُرَ الجَمْع على عَادةَ الحُفَّاظ‏.‏

فصلٌ‏:‏ يُستحب للمُحدِّث العارف عقد مَجْلس لإملاء الحديث‏,‏ فإنَّه أعلى مراتب الرِّواية والسَّماع‏,‏ وفيه أحسن وجوه التحمل وأقواها‏.‏

روى ابن عَدي والبيهقي في «المدخل» من طريقه حدثنا عبد الصمد بن عبد الله ومحمَّد بن بشر الدِّمشقيان‏,‏ قالا‏:‏ حدَّثنا هِشَام بن عمار‏,‏ حدَّثنا أبو الخطَّاب معروف الخياط‏,‏ قال‏:‏ رأيتُ واثلة بن الأسْقع رضي الله عنه عنه يُملي على النَّاس الأحاديث وهم يكتبونها بين يديه‏.‏

ويتخذ مُستمليًا مُحصلاً مُتيقظًا‏,‏ يُبلِّغ عنه إذا كثر الجمع على عَادة الحُفَّاظ في ذلك‏,‏ كما رُوي عن مالك‏,‏ وشُعبة‏,‏ ووكيع‏,‏ وخَلائق‏.‏

وقد روى أبو داود والنَّسائي من حديث رافع بن عَمرو قال‏:‏ رأيتُ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يخطب النَّاس بمنى حين ارتفعَ الضُّحى على بَغْلة شَهْباء‏,‏ وعلي يُعبِّر عنه‏.‏

وفي «الصَّحيح» عن أبي جَمْرة قال‏:‏ كُنت أُترجم بين ابن عبَّاس وبين النَّاس‏.‏

فإن كثُرَ الجمع بحيث لا يكفي مُستملٍ‏,‏ اتَّخذ مُسْتملين فأكثر‏,‏ فقد أملى أبو مُسْلم الكَجِّي في رحبة غسَّان‏,‏ وكان في مَجْلسه سبعة مُستملون‏,‏ يُبلِّغ كل واحد صاحبه الَّذي يليه‏,‏ وحضر عنده نيف وأربعون ألف محبرة‏,‏ سوى النظارة‏.‏

وكان يحضُر مَجْلس عاصم بن علي أكثر من مئة ألف إنسان‏.‏

ولا يَكُون المُستملي بليدًا‏,‏ كمُسْتملي يزيد بن هارون‏,‏ حيث سُئل يزيد عن حديث فقال‏:‏ حدَّثنا به عِدَّة‏,‏ فصاح المُسْتملي‏:‏ يا أبا خالد عدَّة ابن مَنْ‏؟‏ فقال له‏:‏ ابن فقدتك‏.‏

ومن لطيف ما وردَ في الاسْتملاء‏,‏ ما حكاهُ المِزِّي في «تهذيبه» عن عَبْدان بن مُحمَّد المَرْوزي قال‏:‏ رأيتُ الحافظ يعقوب بن سُفيان الفَسَوي في النَّوم‏,‏ فقلت‏:‏ ما فعل الله تعالى بكَ‏؟‏ قال‏:‏ غفر لي‏,‏ وأمرني أن أُحدِّث في السَّماء السَّابعة‏,‏ كما كُنت أُحدِّث في الأرض‏,‏ فحدَّثت في السَّماء السَّابعة‏,‏ فاجتمع عليَّ الملائكة واسْتملَى عليَّ جبريل‏,‏ وكتبُوا بأقلام من الذَّهب‏.‏

وعن أحمد بن جعفر التستري قال‏:‏ لمَّا جاءني يعقوب بن سُفيان‏,‏ رأيتهُ في النَّوم كأنَّه يُحدِّثُ في السَّماء السَّابعة‏,‏ وجبريل يَسْتملي عليه‏.‏

ويَسْتملي مُرتفعًا‏,‏ وإلاَّ قَائمًا‏,‏ وعَليهِ تَبْليغ لَفْظه على وجْههِ‏,‏ وفَائدةُ المُسْتملي تَفْهيم السَّامع على بُعْدٍ‏,‏ وأمَّا من لم يَسْمع إلاَّ المُبلِّغ‏,‏ فلا يَجُوز لهُ رِوَايتهُ عن المُمْلي‏,‏ إلاَّ أن يُبيِّن الحال‏,‏ وقد تقدَّم هذا في الرَّابع والعِشْرين‏,‏ ويَسْتنصت المُسْتملي النَّاس‏,‏ بعد قِرَاءة قارئ حَسَن الصَّوت شَيئًا من القُرآن‏.‏

ويَسْتملي مُرْتفعًا على كُرسي ونحوه وإلاَّ قائمًا على قدميه‏,‏ ليَكُون أبلغ للسَّامعين وعليه أي‏:‏ المستملي وجوبًا تبليغ لفظه أي‏:‏ المُملي‏,‏ وأداؤه على وجهه من غير تغيير‏.‏

وفائدة المُستملي تفهيم السَّامع لفظ المُملي على بعد ليتحقَّقه بصوته‏.‏

وأمَّا من لم يسمع إلاَّ المُبلغ‏,‏ فلا يَجُوز له روايته عن المُملي‏,‏ إلاَّ أن يُبين الحال‏,‏ وقد تقدَّم هذا بما فيه في النَّوع الرَّابع والعشرين‏.‏

ويَسْتنصت المُسْتملي النَّاس أي‏:‏ أهل المَجْلس‏,‏ حيث احتيج للاستنصات‏,‏ ففي «الصَّحيحين» من حديث جَرِير أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال له‏:‏ «اسْتَنصت النَّاس»‏.‏ بعد قِرَاءة قارئ حَسَن الصَّوت شيئًا من القُرْآن لما تقدَّم‏.‏

ثمَّ يُبَسمل ويَحْمد الله تَعَالَى ويُصلِّي على رَسُول الله صلى الله عليه وسلم ويتحرَّى الأبْلَغ فيه‏,‏ ثمَّ يَقُول للمُحدِّث‏:‏ مَنْ‏؟‏ أو ما ذَكَرت رحمكَ الله‏؟‏ أو رَضِي عنكَ‏,‏ وما أشبههُ‏.‏

ثمَّ يُبَسمل المُسْتملي ويحمد الله تَعِالى ويُصلِّي على رَسُوله صلى الله عليه وسلم ويتحرَّى الأبْلغ فيه من ألفاظ الحمد والصَّلاة‏.‏

وقد ذكرَ المُصنِّف في الرَّوضة عن المتولي وجماعة من الخُرَاسانيين‏:‏ أن أبلغ ألفاظ الحمد‏:‏ الحمدُ لله حمدًا يُوافي نعمه‏,‏ ويُكافئ مزيده‏.‏ وقال‏:‏ ليسَ لذلك دليل يعتمد‏.‏

وقال البَلْقِيني‏:‏ بل الحمد لله رب العالمين‏,‏ لأنَّه فاتحة الكتاب‏,‏ وآخر دعوى أهل الجنَّة‏,‏ فينبغي الجمع بينهما‏.‏

ونقل في الرَّوضة عن إبْرَاهيم المَرْوزي‏:‏ أنَّ أبلغ ألفاظ الصَّلاة‏:‏ اللهمَّ صلِّ على مُحمَّد‏,‏ كلمَّا ذكرهُ الذَّاكرون‏,‏ وغفلَ عن ذكره الغَافلونَ‏,‏ ثمَّ قال‏:‏ والصَّواب الَّذي ينبغي أن يُجزم به‏:‏ أن أبلغها ما علَّمه النَّبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه حيث قالوا‏:‏ كيف نُصلِّي عليك‏؟‏ فقال‏:‏ «قُولوا‏:‏ اللهمَّ صلِّ على مُحمَّد وعلى آل مُحمَّد كما صلَّيتُ على إبْرَاهيم‏,‏ وعلى آل إبْرَاهيم‏,‏ وبارك على مُحمَّد‏,‏ وعلى آل مُحمَّد‏,‏ كما باركتُ على إبْرَاهيم‏,‏ وعلى آل إبْرَاهيم في العَالمين إنَّك حميدٌ مَجِيد»‏.‏

ثمَّ يقول المُسْتملي للمُحدِّث المُملي من ذكرت‏؟‏ أي‏:‏ من الشِّيوخ أو ما ذكرت‏؟‏ أي‏:‏ من الأحاديث رحمكَ الله‏,‏ أو رضي عنك‏,‏ وما أشبهه‏.‏

قال يحيى بن أكثم‏:‏ نلتُ القضاء‏,‏ أو قضاء القُضَاة‏,‏ والوزارة‏,‏ وكذا وكذا‏,‏ ما سُررتُ بشيء مثل قولُ المُسْتملي‏:‏ مَنْ ذكرتَ رحمكَ الله‏؟‏

وكُلَّما ذُكر النَّبي صلى الله عليه وسلم صلَّى عليه وسلَّم‏,‏ قال الخَطيبُ‏:‏ ويرفعُ بِهَا صوتهُ‏,‏ وإذا ذُكر صحابيًا رضَّى عليه‏,‏ فإن كان ابن صَحَابي قال‏:‏ رضي الله عنهما‏,‏ ويَحْسُن بالمُحدِّث الثَّناء على شيخهِ حال الرِّواية بما هو أهلهُ‏,‏ كما فعلهُ جَمَاعات من السَّلف‏,‏ وليَعْتن بالدُّعاء له فهو أهم‏.‏

وكلما ذُكر النَّبي صلى الله عليه وسلم صلَّى المُسْتملي عليه وسلَّم‏.‏

قال الخَطيبُ‏:‏ ويرفع بها صَوْته‏,‏ وإذ ذكر صَحَابيًا رضَّى عليه‏,‏ فإن كانَ ابن صحابي قال‏:‏ رضي الله عنهما‏.‏

وكذَا يترحَّم على الأئمة‏,‏ فقد رَوَى الخَطِيب‏:‏ أنَّ الرَّبيع بن سُليمان قال له القَارئ يوما‏:‏ حدَّثكُم الشَّافعي‏,‏ ولم يقل‏:‏ رضي الله عنهُ‏,‏ فقال الرَّبيع‏:‏ ولا حَرْف حتَّى يُقَال‏:‏ رضي الله عنه‏.‏

ويَحْسُن بالمُحدِّث الثَّناء على شَيْخه حال الرِّواية عنهُ بما هو أهله‏,‏ كمَا فعلهُ جَمَاعات من السَّلف كقول أبي مُسْلم الخَوْلاني‏:‏ حدَّثني الحبيب الأمين عوف بن مُسلم‏.‏

وكقول مَسْروق‏:‏ حدَّثتني الصِّديقة بنت الصِّديق‏,‏ حبيبة حبيب الله المُبرَّأة‏.‏

وكقول عطاء‏:‏ حدَّثني البحر‏,‏ يعني ابن عبَّاس رضي الله عنهما‏.‏

وكقول شُعبة‏:‏ حدَّثني سيِّد الفُقَهاء أيُّوب‏.‏

وكقول وكيع‏:‏ حدَّثنا سُفيان أمير المؤمنين في الحديث‏.‏

وليعتن بالدُّعاء له‏,‏ فهو أهم من الثَّناء المَذْكُور‏,‏ ويجمع في الشَّيْخ بين اسمه وكُنيته‏,‏ فهو أبلغ في إعْظَامه‏.‏

قال الخَطيبُ‏:‏ لكن يقتصر في الرِّواية على اسم من لا يُشكل‏,‏ كأيُّوب‏,‏ ويونس‏,‏ ومالك‏,‏ واللَّيث‏,‏ ونحوهم‏,‏ وكذا على نِسْبة من هو مَشْهور بها‏,‏ كابن عون‏,‏ وابن جُريج‏,‏ والشَّعبي‏,‏ والنَّخْعي‏,‏ والثَّوري‏,‏ والزُّهْري‏,‏ ونحو ذلك‏.‏

ولا بَأْس بذكْرِ من يَرْوي عنهُ بلقبٍ‏,‏ أو وَصْفٍ‏,‏ أو حِرْفةٍ‏,‏ أو أُمٍّ عُرفَ بهَا‏,‏ ويُسْتحبُّ أن يَجْمع في إمْلائهِ جَمَاعةً من شُيوخه‏,‏ مُقدِّمًا أرجحَهُم‏,‏ ويروي عن كلِّ شَيْخٍ حديثًا‏,‏ ويختارَ مَا عَلا سندُهُ‏,‏ وقَصُر مَتْنهُ‏,‏ والمُسْتفاد منهُ ويُنبِّهُ على صحَّتهِ‏,‏ وما فيهِ من عُلو وفَائدةٍ وضَبْطِ مُشْكل‏,‏ وليَجْتنب مَا لا تَحتملُه عُقولهم‏,‏ وما لا يفهَمُونه‏.‏

ولا بأس بذكر من يروي عنه بلقب كغُنْدر أو وصف كالأعْمَش أو حِرْفة كالحنَّاط أو أُم كابن عُلية‏,‏ وإن كره ذلك‏,‏ إذا عُرف بها وقصدَ تعريفه لا عيبه‏.‏

ويُسْتحب للمُملي أن يَجْمع في إملائه الرِّواية عن جَمَاعة من شُيوخه ولا يقتصر على شيخ واحد ومُقدمًا أرجحهم بعلو سنده أو غيره‏,‏ ولا يروي إلاَّ عن ثقات من شيوخه‏,‏ دون كذَّاب أو فاسق أو مبتدع‏.‏

روى مسلم في مقدمة «صحيحه» عن ابن مَهْدي قال‏:‏ لا يَكُون الرَّجُل إمامًا‏,‏ وهو يُحدث بكلِّ ما سمع‏,‏ ولا يَكُون الرَّجُل إمامًا‏,‏ وهو يُحدِّث عن كلِّ أحد‏.‏

ويروي عن كلِّ شيخ حديثا واحدًا في مَجْلس ويختار من الأحاديث ما علا سندهُ وقصر مَتْنه وكان في الفِقْهِ أو التَّرغيب‏.‏

قال علي بن حُجْر‏:‏

وظيفتنا مئة للغريب في *** كلِّ يوم سوى ما يُعاد

شَرِيكية أو هُشَيمية *** أحاديث فقه فصار جياد

و يتحرَّى المُسْتفاد منهُ‏,‏ ويُنبِّه على صحَّته أي‏:‏ الحديث‏,‏ أو حسنه‏,‏ أو ضعفه‏,‏ أو علته إن كان معلُولا و على ما فيه من عُلو وجلالة في الإسْنَاد وفائدة في الحديث‏,‏ أو السَّند‏,‏ كتقديم تاريخ سماعه‏,‏ وانفراده عن شيخه‏,‏ وكونه لا يُوجد إلاَّ عنده وضبط مُشْكل في الأسْماء‏,‏ أو غريب‏,‏ أو معنى غامض في المَتْنِ‏.‏

وليجتنب من الأحاديث ما لا تحتملهُ عقولهم‏,‏ وما لا يفهمونه كأحاديث الصِّفات‏,‏ لما لا يؤمن عليهم من الخطأ والوَهْم والوقُوع في التَّشبيه والتَّجْسيم‏.‏

فقد قال علي‏:‏ تُحبون أن يُكذَّب الله ورَسُوله‏,‏ حدِّثوا النَّاس بما يعرفون‏,‏ ودعوا ما يُنكرون‏.‏ رواه البُخَاري‏.‏

وروى البَيْهقي في «الشُّعب» عن المِقْدام بن معدي كرب عن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إذا حدَّثتم النَّاس عن ربِّهم‏,‏ فلا تُحدِّثُوهم بما يغرب أو يَشُق عليهم»‏.‏

وقال ابن مَسْعُود‏:‏ ما أنت بمحدِّث قومًا حديثًا لا تبلغه عُقولهم‏,‏ إلاَّ كان لبعضهم فِتْنة‏.‏ رواه مسلم‏.‏

قال الخطيبُ‏:‏ ويجتنب أيضًا في روايته للعلوم أحاديث الرُّخَص‏,‏ وما شجرَ بين الصَّحابة‏,‏ والإسرائيليات‏.‏

ويَخْتمُ الإمْلاء بحكَايَاتٍ ونَوَادر وإنْشَاداتٍ بأسَانيدها‏,‏ وأوْلاهَا ما في الزُّهْد والآداب ومَكَارم الأخْلاق‏,‏ وإذا قصرَ المُحدِّث‏,‏ أو اشتغلَ عن تخريج الإمْلاء‏,‏ اسْتعَان ببعضِ الحُفَّاظ‏,‏ وإذا فرغَ الإملاء قابلهُ وأتقنه‏.‏

ويختم الإملاء بحكايات ونَوَادر وإنْشَادات بأسانيدها كعادة الأئمة في ذلك‏.‏

وقد استدلَّ لهُ الخَطِيب بما رواه عن عليٍّ قال‏:‏ رَوِّحوا القُلوب وابتغوا لها طُرَف الحِكْمة‏.‏

وكان الزُّهْري يقول لأصحابه‏:‏ هاتُوا من أشْعَاركم‏,‏ هاتوا من أحاديثكم‏,‏ فإن الأذن مجاجة‏,‏ والقلب حمض‏.‏

وأولاهَا ما في الزُّهد‏,‏ والآداب‏,‏ ومَكَارم الأخْلاق هذا من زوائد المُصنِّف‏.‏

وإذا قصرَ المُحدِّث عن تخريج الإملاء لقُصُوره عن المَعْرفة بالحديث وعلله واختلاف وجوهه أو اشتغل عن تخريج الإملاء‏,‏ استعان ببعض الحُفَّاظ في تخريج الأحاديث الَّتي يُريد إملاءها قبل يوم مَجْلسه‏,‏ فقد فعله جَمَاعة كأبي الحُسين بن بِشْران‏,‏ وأبي القاسم السراج وخلائق‏.‏

وإذا فرغ الإمْلاء قَابلهُ وأتقنهُ لإصْلاح ما فسدَ منهُ بزيغ القَلَم وطُغْيانه‏,‏ وفيه حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه السَّابق في فرع المُقَابلة‏.‏

قال العِرَاقي‏:‏ وقد رخَّص ابن الصَّلاح هناك في الرِّواية بدونها بشروط ثلاثة‏,‏ ولم يذكر ذلك هنا‏,‏ فيُحتمل أن يحمل هذا على ما تقدَّم‏,‏ ويحتمل الفرق بين النَّسخ من أصل السَّماع‏,‏ والنَّسخ من إملاء الشَّيْخ حِفظًا‏,‏ لأنَّ الحفظ خَوَّان‏.‏

قال‏:‏ ولكن المُقَابلة للإملاء أيضًا إنَّما هي مع الشَّيْخ أيضًا من حِفْظهِ‏,‏ لا على أصُوله‏.‏

قلتُ‏:‏ جرت عَادتنا بتخريج الإملاء وتحريره في كُراسة‏,‏ ثمَّ نُمْلي حِفظًا‏,‏ وإذا نجز قابلهُ المُملي معنا على الأصل الَّذي حرَّرناه‏,‏ وذلك غاية الإتْقَان‏,‏ وقد كانَ الإملاء درس بعد ابن الصَّلاح‏,‏ إلى أواخر أيَّام الحافظ أبي الفَضْل العِرَاقي‏,‏ فافتتحه سَنَة ستٍّ وتسعين وسبع مئة‏,‏ فأملى أربع مئة مجلس وبضعة عشر مَجْلسًا إلى سَنَة موته سَنَة ست وثمان مئة‏.‏

ثمَّ أملى ولده إلى أن مات سَنَة ست وعشرين ست مئة مجلس وكسرًا‏.‏

ثمَّ أملى شيخ الإسْلام ابن حجر إلى أن مات سَنَة ثنتين وخمسين أكثر من ألف مجلس‏.‏

ثمَّ درس تسع عشرة سَنَة‏,‏ فافتتحته أوَّل سَنَة ثنتين وسبعين‏,‏ فأمليتُ ثمانين مَجْلسًا ثمَّ خمسين أخرى‏.‏

ويَنْبغي أن لا يُملي في الأسْبُوع إلاَّ يومًا واحدًا‏,‏ لحديث الشَّيخين عن أبي وائل قال‏:‏ كان ابن مَسْعُود يُذكِّر النَّاس في كلِّ يوم خميس‏,‏ فقال له رجل‏:‏ لوددنا أنَّك ذكَّرتنا كل يوم‏,‏ فقال‏:‏ أما إنَّه ما يمنعني من ذلك إلاَّ أنِّي أكره أن أملكم‏,‏ وإنِّي أتَخَولكُم بالمَوْعظة‏,‏ كما كانَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَتَخوَّلنا بالموعظة مَخَافة السَّآمة علينا‏.‏

وروى البُخَاري عن عِكْرمة‏,‏ عن ابن عبَّاس قال‏:‏ حدِّث النَّاس كل جُمعة مرَّة‏,‏ فإن أبيتَ فمرَّتين‏,‏ فإن أكثرتَ فثلاث مِرَار‏,‏ ولا تمل النَّاس هذا القُرآن‏,‏ ولا تأت القَوْم وهم في حديث فتقطع عليهم حديثهم‏,‏ ولكن أنْصِت‏,‏ فإذا أمرُوكَ فحدِّثهم وهُم يَشْتهُونه‏.‏

ولم أظْفر لأحد بتعيين يوم الإملاء‏,‏ ولا وقته‏,‏ إلاَّ أنَّ غالب الحُفَّاظ‏,‏ كابن عساكر‏,‏ وابن السَّمعاني‏,‏ والخَطِيب‏,‏ كانوا يُملون يوم الجُمعة بعد صَلاتها‏,‏ فتبعتهم في ذلك‏,‏ وقد ظفرتُ بحديثٍ يدل على اسْتحبابه بعد عَصْر يوم الجُمُعة‏,‏ وهو ما أخرجهُ البَيْهقي في «الشُّعب» عن أنس مرفوعًا‏:‏ «من صَلَّى العصر‏,‏ ثمَّ جلسَ يُملي خبرًا حتَّى يُمسي‏,‏ كان أفضل مِمَّن أعتق ثمانية من ولد إسماعيل»‏.‏

النَّوع الثَّامن والعِشْرون‏:‏ معرفة آداب طالب الحديث

قد تقدَّم منهُ جُمل مُفرَّقة‏,‏ ويجبُ عليهِ تَصْحيح النِّيَّة‏,‏ والإخْلاص لله تعالى في طَلَبهِ‏,‏ والحَذَرُ من التَّوصُّل به إلى أغْرَاض الدُّنيا‏,‏ ويسأل الله تعالى التَّوفيق والتَّسْديد والتَّيْسير‏,‏ ويَسْتعمل الأخْلاق الجَمِيلة والآداب‏,‏ ثمَّ ليُفرغ جُهْدهُ في تحصيلهِ ويَغْتنم إمْكَانه‏.‏

النَّوع الثَّامن والعِشْرُون‏:‏ معرفةُ آداب طالب الحديث‏.‏

قد تقدَّم منهُ جمل مُفرَّقة ويجب عليه تصحيح النية‏,‏ والإخلاص لله تعالى في طلبه‏,‏ والحذر من التَّوصل به إلى أغْرَاض الدُّنيا‏.‏

فقد روى أبو داود وابن ماجه من حديث أبي هُريرة قال‏:‏ قال رَسُول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من تعلَّم عِلمًا مِمَّا يُبْتغَى بهِ وجه الله تعالى‏,‏ لا يتعلمه إلاَّ ليُصيب به غَرَضًا من الدُّنيا‏,‏ لم يجد عرف الجنَّة يوم القِيَامة»‏.‏

وقال حمَّاد بن سَلمة‏:‏ من طلب الحديث لغير الله مُكر به‏.‏

وقال سُفْيان الثَّوري‏:‏ ما أعلم عملاً هو أفضل من طلب الحديث لمن أرادَ الله تعالى‏.‏

قال ابن الصَّلاح‏:‏ ومن أقرب الوجوه في إصْلاح النِّيَّة فيه ما روينا عن أبي عَمرو بن نُجَيد أنَّه سأل أبا جعفر بن حمدان- وكانا عبدين صالحين- فقال له‏:‏ بأي نية أكتب الحديث‏؟‏ فقال‏:‏ ألستم ترون أنَّ عندَ ذكر الصَّالحين تنزل الرَّحمة‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏,‏ قال‏:‏ فرَسُول الله صلى الله عليه وسلم رأسُ الصَّالحين‏.‏

ويسأل الله تعالى التَّوفيق والتَّسديد لذلك والتَّيسير والإعانة عليه ويستعمل الأخلاق الجميلة والآداب الرَّضية‏.‏

فقد قال أبو عاصم النَّبيل‏:‏ من طلبَ هذا الحديث فقد طلب أعْلَى أُمور الدِّين‏,‏ فيجب أن يَكُون خير النَّاس‏.‏

ثمَّ ليُفْرغ جُهده في تَحْصيله‏,‏ ويَغْتنم إمكانهُ‏.‏

ففي «صحيح» مُسلم من حديث أبي هُريرة مرفوعًا‏:‏ «احْرِص على مَا ينفعُكَ واسْتَعن بالله ولا تَعْجز»‏.‏

وقال يَحْيى بن أبي كثير‏:‏ لا يُنَال العلم بِرَاحة الجِسْم‏.‏

وقال الشَّافعي‏:‏ لا يطلب هذا العلم من يطلبه بالتَّملل وغِنَى النَّفس فيُفْلح‏,‏ ولكن من طلبهُ بذلة النَّفس وضِيق العَيْش‏,‏ وخِدْمة العِلْم أفلح‏.‏

ويَبْدأ بالسَّماع من أرْجَح شُيوخ بَلَدهِ إسْنَادًا‏,‏ وعِلْمًا‏,‏ وشُهْرةً‏,‏ ودينًا‏,‏ وغيرهُ‏,‏ فإذا فرغَ من مُهمَّاتهم‏,‏ فليَرْحل على عَادةِ الحُفَّاظ المُبرزين‏.‏

ويبدأ بالسَّماع من أرجح شُيوخ بلده‏,‏ إسنادًا‏,‏ وعلمًا‏,‏ وشُهرة‏,‏ ودينًا‏,‏ وغيره إلي أن يفرغ منهم‏,‏ ويبدأ بأفرادهم‏,‏ فمن تفرَّد بشيء أخذه عنه أولاً فإذا فرغ من مُهماتهم وسماع عَوَاليهم فليَرْحل إلى سائر البُلْدان على عَادة الحُفَّاظ المُبرزين ولا يرحل قبل ذلك‏.‏

قال الخَطيبُ‏:‏ فإن المَقْصُود من الرِّحلة أمران‏:‏

أحدهما‏:‏ تحصيل عُلو الإسناد‏,‏ وقِدَم السَّماع‏.‏

والثاني‏:‏ لِقَاء الحُفَّاظ‏,‏ والمُذَاكرة لهم والاستفادة منهم‏.‏

فإذا كان الأمران موجودين في بلده‏,‏ ومعدومين في غيره‏,‏ فلا فائدة في الرِّحلة‏,‏ أو موجودين في كل منهما‏,‏ فليُحصِّل حديث بلده‏,‏ ثمَّ يرحل‏.‏

قال‏:‏ وإذَا عزمَ على الرِّحلة‏,‏ فلا يترك أحدًا في بلده من الرُّواة إلاَّ ويكتب عنه ما تيسَّر من الأحاديث وإن قلَّت‏,‏ فقد قال بعضهم‏:‏ ضيع ورقة‏,‏ ولا تُضيعنَّ شيخًا‏.‏

والأصل في الرِّحلة ما رواهُ البَيْهقي في «المَدْخل» والخَطيب في «الجَامع» عن عبد الله بن مُحمَّد بن عقيل‏,‏ عن جَابر بن عبد الله قال‏:‏ بلغني حديث عن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لم أسمعهُ‏,‏ فابتعتُ بعيرًا فشددتُ عليه رَحْلي‏,‏ وسرتُ شهرا حتَّى قدمتُ الشَّام‏,‏ فأتيتُ عبد الله بن أُنيس فقلت للبواب‏:‏ قُل له جابر على الباب‏,‏ فأتاهُ فقال له‏:‏ جَابر بن عبد الله‏؟‏ فأتَاني فقال لي‏:‏ جابر‏؟‏ فقلتُ‏:‏ نعم‏,‏ فرجع فأخبره فقام يُطأطئ ثَوْبهُ حتَّى لقيني‏,‏ فاعتنقني واعتنقتهُ‏,‏ فقلت‏:‏ حديثٌ بلغني عنكَ سمعته من رَسُول الله صلى الله عليه وسلم في القصاص لم أسمعه‏,‏ فخَشيتُ أن تموت‏,‏ أو أموت قبل أن أسمعه‏,‏ فقال‏:‏ سمعتُ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «يحشر الله العِبَاد- أو قال النَّاس- عُرَاة غُرْلاً بُهمًا»‏.‏ قلنا‏:‏ ما بُهمًا‏؟‏ قال‏:‏ «ليسَ معهم شيء‏,‏ ثمَّ يُناديهم ربهم بصَوتٍ يَسْمعهُ من بَعُد‏,‏ كما يسمعه من قَرُب‏:‏ أنا المَلك‏,‏ أنا الديَّان‏,‏ لا ينبغي لأحد من أهل الجنَّة أن يدخل الجنَّة‏,‏ ولا أحد من أهل النَّار عندهُ مَظْلمة حتَّى أقصه منه‏,‏ حتَّى اللَّطمة»‏.‏ قُلنا‏.‏ كيف وإنَّما نأتي الله عُراة غُرلا بُهمًا‏,‏ قال‏:‏ «بالحَسَنات والسَّيئات»‏.‏

واستدلَّ البَيْهقي أيضًا برحلة مُوسى إلى الخضر‏,‏ وقِصَّتهُ في الصَّحيح‏.‏

وروى أيضًا من طريق عيَّاش بن عبَّاس‏,‏ عن واهب بن عبد الله المَعَافري‏,‏ قال‏:‏ قدمَ رَجُل من أصْحَاب النَّبي صلى الله عليه وسلم من الأنصار على مَسْلمة بن مَخْلد‏,‏ فألفاهُ نائمًا‏,‏ فقال‏:‏ أيقظُوه‏,‏ قالوا‏:‏ بل نتركه حتَّى يستيقظ‏,‏ قال‏:‏ لستُ فاعلاً‏,‏ فأيقظُوا مَسْلمة لهُ‏,‏ فرحَّب به وقال‏:‏ انزل‏,‏ قال‏:‏ لا حتَّى تُرسل إلى عُقبة بن عامر لحاجة لي إليه‏,‏ فأرسل إلى عُقْبة‏,‏ فأتاهُ فقال‏:‏ هل سمعتَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «من وجَدَ مُسلمًا على عَوْرةٍ فسترهُ‏,‏ فكأنَّما أحيا مؤودة من قَبْرها»‏؟‏ فقال عُقبة‏:‏ قد سمعتُ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك‏.‏

وسأل عبد الله بن أحمد أباهُ عمَّن طلب العلم‏,‏ ترى له أن يلزم رَجُلاً عنده علم فيكتب عنهُ‏,‏ أو ترى له أن يرحل إلى المَوَاضع الَّتي فيها العلم فيسمع منهم‏؟‏ قال‏:‏ يرحل يكتب عن الكُوفيين‏,‏ والبَصْريين‏,‏ وأهل المَدِينة‏,‏ ومكَّة‏,‏ يُسأم النَّاس يسمع منهم‏.‏

وقال ابن مَعِين‏:‏ أرْبَعة لا تأنس منهم رُشْدًا‏,‏ وذكر منهم رَجُلاً يكتب في بلدٍ‏,‏ ولا يرحل في طلب الحديث‏.‏

وقال إبْرَاهيم بن أدْهَم‏:‏ إنَّ الله يرفع البَلاء عن هذه الأُمة برحلة أصحاب الحديث‏.‏

ولا يَحْملنَّهُ الشَّره على التَّساهُل في التَّحمُّل‏,‏ فيُخل بشيء من شُرُوطهِ‏,‏ ويَنْبغي أن يُسْتعمل ما يَسْمعهُ من أحَاديث العِبَادات والآداب‏,‏ فذلكَ زَكَاةُ الحَدِيث وسبب حِفْظهِ‏.‏

ولا يحملنَّه الشَّره والحِرْص على التَّساهُل في التحمُّل‏,‏ فيُخل بشيء من شُروطه السَّابقة‏,‏ فإن شهوة السَّماع لا تنتهي‏,‏ ونُهمة الطَّلب لا تنقضي‏,‏ والعلم كالبحَار الَّتي يتعذَّر كيلها‏,‏ والمعادن الَّتي لا ينقطع نيلها‏.‏

أخرج المروزي في كتاب العلم‏,‏ قال‏:‏ حدَّثنا ابن شُعيب بن الحِبْحَاب‏,‏ حدَّثني عمِّي صالح بن عبد الكبير‏,‏ حدَّثني عمِّي أبو بكر بن شُعيب‏,‏ عن قَتَادة قال‏:‏ قلتُ لشُعيب بن الحِبْحَاب‏:‏ نزل عليَّ أبو العالية الرِّيَاحي فأقللتُ عنه الحديث‏,‏ فقال شُعيب‏:‏ السَّماع من الرِّجال أرزاق‏.‏

وينبغي أن يستعمل ما يسمعهُ من أحاديث العِبَادات والآداب وفضائل الأعمال فذلك زكاةُ الحديث وسبب حفظه فقد قال بِشْر الحافي‏:‏ يا أصْحَاب الحديث أدُّوا زكاة هذا الحديث‏,‏ اعملُوا من كلِّ مئتي حديث بخمسة أحاديث‏.‏

وقال عَمرو بن قيس المُلائي‏:‏ إذا بلغكَ شيء من الخير فاعمل به ولو مرَّة تَكُن من أهله‏.‏

وقال وكيع‏:‏ إذا أردت أن تحفظ الحديث فاعمل به‏.‏

وقال إبْرَاهيم بن إسماعيل بن مُجمِّع‏:‏ كُنَّا نستعين على حفظ الحديث بالعمل به‏.‏

وقال أحمد بن حنبل‏:‏ ما كتبت حديثًا إلاَّ وقد عملتُ به‏,‏ حتَّى مر بي‏:‏ أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم احْتَجمَ وأعَطَى أبا طِيبة دينارًا‏,‏ فاحتجمتُ وأعطيتُ الحَجَّام دينارًا‏.‏

فصلٌ‏:‏ ويَنْبغي أن يُعظِّم شيخهُ ومن يسمعُ منهُ‏,‏ فذلكَ من إجْلالِ العلم وأسْبَابِ الانْتفاع‏,‏ ويعتقد جَلالةَ شَيْخهِ ورُجْحانه‏,‏ ويتحرَّى رِضَاهُ‏,‏ ولا يُطَوِّل عليه بحيثُ يُضْجرهُ‏.‏

فصل‏:‏ وينبغي للطَّالب أن يُعظِّم شيخه ومن يسمع منه‏,‏ فذلك من إجْلالِ العلم وأسباب الانتفاع به‏.‏

وقد قال المُغيرة‏:‏ كُنَّا نهاب إبْرَاهيم كما نَهَاب الأمير‏.‏

وقال البُخَاري‏:‏ ما رأيتُ أحدًا أوقرَ للمُحدِّثين من يحيى بن مَعِين‏.‏

وفي الحديث‏:‏ «تواضَعُوا لمن تعلَّمونَ منهُ»‏.‏ رواه البَيْهقي مرفوعًا من حديث أبي هُريرة وضعَّفه‏,‏ وقال‏:‏ الصَّحيح وقفه على عُمر‏.‏

وأورد في الباب حديث عُبَادة بن الصَّامت مرفوعًا‏:‏ «ليسَ منَّا من لم يُجل كبيرنا‏,‏ ويَرْحم صغيرنا‏,‏ ويعرف لعَالمنَا»‏.‏ رواه أحمد وغيره‏.‏

وأسند عن ابن عبَّاس قال‏:‏ وجدتُ عامة علم رَسُول الله صلى الله عليه وسلم عندَ هذا الحي من الأنصار‏,‏ فإن كنتُ لآتي باب أحدهم فأقيل ببابه‏,‏ ولو شئتُ أن يُؤذن لي عليه لأذن‏,‏ لي لِقَرابتي من رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن كنتُ أبتغي بذلك طيب نفسه‏.‏

وأسند عن أبي عُبيد القاسم بن سَلاَّم قال‏:‏ ما دققت على مُحدِّث بابه قط‏,‏ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 5‏]‏‏.‏

ويَعْتقد جَلالة شَيْخه ورُجْحانه على غيره‏,‏ فقد روى الخليلي في «الإرشاد» عن أبي يُوسف القَاضي قال‏:‏ سمعتُ السَّلف يقولون‏:‏ من لا يعرف لأُسْتاذهِ لا يُفلح‏.‏

ويتحرَّى رِضَاهُ ويحذر سخطه ولا يُطوِّل عليه بحيث يُضْجرهُ بل يقنع بما يُحدِّثهُ به‏.‏

فإنَّ الإضْجَار يُغيِّر الأفهام‏,‏ ويُفسد الأخلاق‏,‏ ويُحيل الطِّباع‏.‏

وقد كان إسْمَاعيل بن أبي خالد من أحسن النَّاس خُلقًا‏,‏ فلم يزالوا به حتَّى ساء خلقه‏.‏

وروينا عن ابن سيرين أنَّه سأله رجل عن حديث‏,‏ وقد أراد أن يقوم فقال‏:‏

إنَّك إن كلَّفتني ما لم أُطق *** ساءك ما سرك مني من خُلق

قال ابن الصَّلاح‏:‏ ويخشى على فاعل ذلك أن يُحرَم من الانتفاع‏.‏

قال‏:‏ وروينا عن الزُّهْري أنَّه قال‏:‏ إذا طال المَجْلس كان للشَّيطان فيه نصيب‏.‏

وليَسْتشرهُ في أُمُوره‏,‏ وما يَشْتغلُ فيهِ‏,‏ وكَيْفيةِ اشْتغَالهِ‏,‏ ويَنْبغي لهُ إذَا ظَفَرَ بسماعٍ أن يُرشدَ إليه غيرهُ‏,‏ فإنَّ كِتْمانه لُؤم يقعُ فيه جَهَلةُ الطَّلبة‏,‏ فيُخَاف على كاتمه عدم الانْتفَاع‏,‏ فإنَّ من بركة الحديث إفَادته‏,‏ ونَشْره يُمنٌ‏.‏

وليستشره في أمُوره الَّتي تعرض له وما يشتغل فيه وكيفية اشتغاله وعلى الشَّيْخ نصحه في ذلك‏.‏

ويَنْبغي له أي‏:‏ للطَّالب إذا ظفرَ بِسَماع لشيخ أن يُرْشدَ إليه غيره من الطَّلبة فإنَّ كِتْمانه عنهم لُؤم يقع فيه جهلة الطَّلبة‏,‏ فيخاف على كاتمه عدم الانتفاع‏,‏ فإنَّ من بَرَكة الحديث إفادته كما قال مالك ونشره يُمنٌ‏.‏

وقال ابن مَعِين‏:‏ من بخلَ بالحديث وكتمَ على النَّاس سماعهم لم يُفلح‏,‏ وكذا قال إسْحَاق بن راهويه‏.‏

وقال ابن المُبَارك‏:‏ من بخلَ بالعلم ابْتُلي بثلاث‏:‏ إمَّا أن يموت فيذهب علمهُ‏,‏ أو يَنَسى‏,‏ أو يتبع السُّلطان‏.‏

وروى الخَطِيب في ذلك بسنده عن ابن عبَّاس رفعهُ‏:‏ «إخْوَاني تَنَاصحُوا في العِلْم‏,‏ ولا يكتُم بعضكُم بعضًا‏,‏ فإنَّ خِيَانة الرَّجُل في عِلْمه‏,‏ أشد من خِيَانته في ماله»‏.‏

قال الخَطيبُ‏:‏ ولا يحرم الكتم عمَّن ليس بأهل‏,‏ أو لا يقبل الصَّواب إذا أُرْشدَ إليه‏,‏ أو نحو ذلك‏,‏ وعلى ذلكَ يُحمل ما نُقل عن الأئمة من الكتم‏.‏

وقد قال الخليل لأبي عُبيدة‏:‏ لا تَرُدَّن علي مُعْجب خطأ‏,‏ فيَسْتفيد منكَ علمًا ويَتَّخذكَ به عدوًّا‏.‏

وليَحْذر كُلَّ الحَذَرِ من أن يمنعَهُ الحَيَاءُ والكِبْرُ من السَّعي التَّام في التَّحْصيل وأخْذِ العِلْم مِمَّن دُونهُ في نَسبٍ‏,‏ أو سِنٍّ‏,‏ أو غيرهُ‏.‏

وليحذر كلَّ الحذر من أن يمنعهُ الحياء والكبر من السَّعي التَّام في التَّحصيل وأخذ العلم مِمَّن دُونه في نسبٍ‏,‏ أو سن‏,‏ أو غيره‏.‏

فقد ذكر البُخَاري عن مُجَاهد قال‏:‏ لا يَنَال العِلْم مُستحيي‏,‏ ولا مُسْتكبر‏.‏

وقال عُمر بن الخَطَّاب‏:‏ من رقَّ وجهه‏,‏ دقَّ علمهُ‏.‏

وقالت عائشة‏:‏ نِعْم النِّساء نِسَاء الأنْصَار‏,‏ لم يَكُن يمنعهن الحياء أن يتفَقَّهن في الدِّين‏.‏

وقال وكيع‏:‏ لا يَنبُل الرَّجُل من أصْحَاب الحديث حتَّى يكتب عمَّن هو فوقه‏,‏ وعمَّن هو مثله‏,‏ وعمَّن هو دونه‏.‏

وكان ابن المُبَارك‏:‏ يكتب عمَّن هو دُونه‏,‏ فقيلَ له‏,‏ فقال‏:‏ لعلَّ الكلمة الَّتي فيها نَجَاتي لم تقع لي‏.‏

ورَوَى البَيْهقي عن الأصْمَعي قال‏:‏ من لم يَحْتمل ذُلَّ التعليم ساعة‏,‏ بَقِي في ذُل الجَهْل أبدًا‏.‏

ورَوَي أيضًا عن عُمر قال‏:‏ لا تتعلم العلم لثلاث‏,‏ ولا تَتْركهُ لثلاث‏,‏ لا تتعلم لتُمَاري به‏,‏ ولا تُرائي به‏,‏ ولا تُبَاهي به‏,‏ ولا تَتْركهُ حياء من طَلَبهِ‏,‏ ولا زهَادة فيه‏,‏ ولا رضا بجهالة‏.‏

وليَصْبر عَلَى جَفَاء شَيْخهِ‏,‏ وليَعْتنِ بالمُهمِّ‏,‏ ولا يُضَيِّع وقتهُ في الاسْتكثَار من الشِّيوخ لمُجَرَّد اسم الكَثْرة‏.‏

وليَصْبر على جَفَاء شيخه‏,‏ وليعتن بالمُهمِّ‏,‏ ولا يُضيع وقته في الاسْتكثارِ من الشِّيوخ لمُجرَّد اسم الكثرة وصيتها‏,‏ فإنَّ ذلك شيء لا طائل تحته‏.‏

قال ابن الصَّلاح‏:‏ وليسَ من ذلكَ قول أبي حاتم‏:‏ إذا كتبتَ فقَمِّش‏,‏ وإذا حَدَّثت ففَتِّش‏.‏

قال العِرَاقيُّ‏:‏ كأنَّه أرادَ‏:‏ اكتُب الفَائدة مِمَّن سمعتهَا‏,‏ ولا تُؤخِّر‏,‏ حتَّى تنظر هل هو أهل للأخذ عنه أم لا‏,‏ فربَّما فاتَ ذلك بموته‏,‏ أو سَفَره‏,‏ أو غير ذلك‏,‏ فإذَا كان وقت الرِّواية‏,‏ أو العمل ففتِّش حينئذ‏,‏ ويُحتمل أنَّه أرادَ اسْتيعاب الكِتَاب‏,‏ وترك انْتخَابه‏,‏ أو اسْتيعاب ما عندَ الشَّيْخ وقت التحمُّل‏,‏ ويَكُون النَّظر فيه حال الرِّواية‏.‏

قال‏:‏ وقد يَكُون قصد المُحدِّث تكثير طُرق الحديث‏,‏ وجَمْع أطْرَافه‏,‏ فتكثر بذلك شُيوخه ولا بَأس به‏.‏

فقد قال أبو حاتم‏:‏ لو لَمْ نَكْتُب الحديث من سِتين وجهًا ما عقلناهُ‏.‏

وليَكْتُب وليَسْمع ما يقعُ لهُ من كِتَابٍ‏,‏ أو جُزء بِكمَالهِ‏,‏ ولا يَنْتخب‏,‏ فإن احْتَاجَ تَوَلاَّه بنفسهِ‏,‏ فإن قصرَ عنهُ اسْتَعان بِحَافظٍ‏.‏

وليَكْتب وليَسْمع ما يقع له من كِتَاب أو جُزء بكماله‏,‏ ولا ينتخب فربَّما احْتَاج بعد ذلك إلى رِوَاية شيء منهُ لم يكن فيما انتخبه فيندم‏.‏

وقد قال ابن المُبَارك‏:‏ ما انتخبتُ على عالم قط‏,‏ إلاَّ ندمتُ‏.‏

وقال‏:‏ ما جاء من مُنْتقٍ خير قط‏.‏

وقال ابن مَعِين‏:‏ صاحب الانتخاب يندم‏,‏ وصاحب النَّسخ لا يندم‏.‏

فإن احتاج إليه أي‏:‏ إلى الانتخاب‏,‏ لكون الشَّيْخ مُكثرا‏,‏ وفي الرِّواية عَسِرًا‏,‏ أو كون الطَّالب غريبًا‏,‏ لا يُمكنه طُول الإقَامة تولاَّه بنفسه وانتخبَ عَوَاليه‏,‏ وما تكرَّر من رِوَاياته‏,‏ ومَا لا يجدهُ عند غيره فإن قصر عنه لقلة مَعْرفته استعانَ عليه بحافظٍ‏.‏

قال ابن الصَّلاح‏:‏ ويُعلِّم في الأصل على أوَّل إسناد الأحاديث المُنتخبة بخطٍّ عريض أحمر‏,‏ أو بصاد ممدودة‏,‏ أو بطاء ممدودة‏,‏ أو نحو ذلك‏,‏ وفائدته سهولة الكشف لأجل المُعَارضة‏,‏ أو لاحتمال ذهاب الفرع فيرجع إليه‏.‏

فصلٌ‏:‏ ولا يَنْبغي أن يَقْتصرَ على سَمَاعهِ وكتبهِ دُونَ مَعْرفتهِ وفَهْمهِ‏.‏

فصلٌ‏:‏ ولا ينبغي للطَّالب أن يقتصر من الحديث على سماعه وكتبه‏,‏ دون معرفته وفهمه فيكون قد أتعبَ نفسه من غير أن يظفر بطائل‏,‏ ولا حصول في عِدَاد أهل الحديث‏.‏

وقد قال أبو عاصم النَّبيل‏:‏ الرياسة في الحديث بلا دراية‏,‏ رياسة نذالة‏.‏

قال الخَطِيب‏:‏ هي اجتماع الطَّلبة على الرَّاوي للسَّماع منه عند علو سنِّه‏,‏ فإذا تميَّز الطَّالب بفهم الحديث ومعرفته‏,‏ تعجَّل بركة ذلك في شبيبته‏.‏

فَلْيتعرَّف صحَّته‏,‏ وضعفه‏,‏ وفِقْهه‏,‏ ومَعانيه‏,‏ ولُغته‏,‏ وإعْرَابه‏,‏ وأسْماء رِجَاله‏,‏ مُحقِّقا كُلِّ ذلك‏,‏ مُعْتنيًا بإتْقَان مُشْكلها‏,‏ حفظًا وكِتَابة‏,‏ مُقدمًا «الصَّحيحين» ثمَّ «سنن» أبي داود‏,‏ والتِّرمذي‏,‏ والنَّسائي‏,‏ ثمَّ «السُّنن الكُبرى» للبَيْهقي‏,‏ وليَحْرص عليه‏,‏ فلم يُصنَّف مثله‏,‏ ثمَّ ما تمس الحاجة إليه‏,‏ ثمَّ من المَسَانيد «مسند» أحمد بن حنبل وغيره‏.‏

فليتعرَّف صحَّته وحسنه وضعفه‏,‏ وفقهه‏,‏ ومعانيه‏,‏ ولغته‏,‏ وإعرابه‏,‏ وأسماء رجاله‏,‏ محققًا كل ذلك‏,‏ مُعتنيا بإتقان مُشْكلها حفظًا وكِتَابة‏.‏

مُقدمًا في السَّماع والضَّبط والتفهم والمعرفة «الصَّحيحين» ثمَّ «سنن» أبي داود‏,‏ والتِّرمذي‏,‏ والنَّسائي وابن خُزيمة‏,‏ وابن حبَّان ثمَّ «السُّنن» الكُبرى للبَيْهقي وليَحْرص عليه‏,‏ فلم يُصنَّف في بَابه مثله‏.‏

ثمَّ ما تمس الحَاجة إليه‏,‏ ثمَّ من المسانيد والجَوَامع‏,‏ فأهم المَسَانيد «مسند» أحمد و يليه سائر المَسَانيد غيره‏.‏

وأهم الجَوَامع «المُوطأ» ثمَّ سائر الكُتب المُصنَّفة في الأحكام‏,‏ ككتاب ابن جُريج‏,‏ وابن أبي عَرُوبة‏,‏ وسعيد بن منصُور‏,‏ وعبد الرزَّاق‏,‏ وابن أبي شَيْبة‏,‏ وغيرهم‏.‏

ثمَّ من العِلَل كتابهُ‏,‏ وكِتَاب الدَّارقُطْني‏,‏ ومن الأسْمَاء «تاريخ» البُخَاري‏,‏ وابن أبي خَيْثمة‏,‏ وكتاب ابن أبي حاتم‏,‏ ومن ضَبْط الأسْمَاء كتاب ابن مَاكُولا‏,‏ وليعتن بكُتب غريب الحديث وشُروحه‏,‏ وليَكُن الإتْقَان من شَأنهِ‏,‏ وليُذَاكر بمحفُوظه‏,‏ ويُبَاحث أهل المَعْرفة‏.‏

ثمَّ من كُتب العِلل كِتَابه أي‏:‏ أحمد وكِتَاب الدَّارقُطْني‏.‏

ومن كُتب الأسْماء «تاريخ البُخَاري الكبير» و «تاريخ» ابن أبي خَيْثمة‏,‏ وكتاب ابن أبي حاتم في «الجرح والتَّعديل»‏.‏

ومن كُتب ضَبْط الأسْمَاء‏,‏ كتاب ابن ماكولا‏.‏

وليَعْتن بِكُتب غريب الحديث و كتب شُروحه أي‏:‏ الحديث‏.‏

وليَكُن الإتْقَان من شأنه بأن يَكُون كُلَّما مرَّ به اسم مُشْكل‏,‏ أو كلمة غريبة بحثَ عنها‏,‏ وأودعها قلبه‏.‏

وقد قال ابن مهدي‏:‏ الحفظ الإتقان‏.‏

وليُذاكر بمحفُوظه‏,‏ ويُبَاحث أهل المَعْرفةِ فإنَّ المُذَاكرة تُعين على دَوَامه‏.‏

قال علي بن أبي طَالب‏:‏ تذاكرُوا هَذَا الحديث‏,‏ فإن لا تفعلُوا يدرس‏.‏

وقال ابن مسعود‏:‏ تذاكَرُوا الحديث‏,‏ فإنَّ حياته مُذاكرته‏.‏

وقال ابن عبَّاس‏:‏ مُذاكرة العلم ساعة‏,‏ خير من إحياء ليلة‏.‏

وقال أبو سعيد الخُدْري‏:‏ مُذاكرة الحديث‏,‏ أفضل من قراءة القرآن‏.‏

وقال الزُّهْري‏:‏ آفةُ العِلْم النِّسيان وقِلَّة المُذَاكرة‏.‏ رواهما البَيْهقي في «المدخل»‏.‏

وليَكُن حفظه له بالتَّدريج قليلاً قليلاً‏,‏ ففي «الصَّحيح»‏:‏ «خُذُوا من الأعْمَال مَا تُطيقُون»‏.‏

وقال الزُّهْري‏:‏ من طلبَ العلم جُمْلة‏,‏ فاتهُ جُمْلة‏,‏ وإنَّما يُدْرك العِلْم حديث وحديثان‏.‏

فصلٌ‏:‏ وليَشْتغل بالتَّخريجِ والتَّصْنيف إذا تأهَّل لهُ‏,‏ وليَعْتنِ بالتَّصنيف في شَرْحهِ وبيان مُشْكلهِ‏,‏ مُتقنًا واضحاً‏,‏ فقَلَّما يمهرُ في عِلْمِ الحَديثِ من لم يَفْعل هَذَا‏.‏

فصلٌ‏:‏ وليشتغل بالتخريج والتصنيف إذا تأهَّل له مبادرًا إليه وليعتن بالتَّصنيف في شرحه‏,‏ وبيان مُشكله متقنًا واضحًا‏,‏ فقَلَّما يمهرُ في علم الحديث من لم يفعل هذا‏.‏

قال الخَطِيبُ‏:‏ لا يتمهَّر في الحديث‏,‏ ويقف على غَوامضهِ‏,‏ ويستبين الخَفي من فوائده‏,‏ إلاَّ من جمعَ مُتفرقه‏,‏ وألَّف مُشتته‏,‏ وضمَّ بعضه إلى بعض‏,‏ فإنَّ ذلك مِمَّا يُقوِّي النَّفس‏,‏ ويُثبت الحفظ‏,‏ ويذكي القلب‏,‏ ويشحذ الطَّبع‏,‏ ويبسُط اللِّسان‏,‏ ويُجيد البَيَان‏,‏ ويَكشف المُشتبه‏,‏ ويُوضح المُلْتبس‏,‏ ويَكْسب أيضًا جَميل الذِّكر‏,‏ ويخلدهُ إلى آخر الدَّهر‏,‏ كما قال الشَّاعر‏:‏

يَمُوت قومٌ فيُحيي العلم ذكرهم *** والجهل يجعل أحياء كأموات

قال‏:‏ وكان بعض شُيوخنا يقول‏:‏ من أراد الفائدة فليكسر قلم النَّسخ‏,‏ وليأخذ قلم التَّخريج‏.‏

وقال المُصنِّف في «شرح المهذب»‏:‏ بالتَّصنيف يُطَّلع على حقائق العُلوم ودقائقه‏,‏ ويثبت معه‏,‏ لأنَّه يضطره إلى كثرة التَّفتيش‏,‏ والمُطَالعة‏,‏ والتَّحقيق‏,‏ والمُرَاجعة‏,‏ والاطِّلاع على مُخْتلف كلام الأئمة ومتفقه‏,‏ وواضحه من مُشْكله‏,‏ وصحيحه من ضعيفه‏,‏ وجزله من رَكيكه‏,‏ وما لا اعتراض فيه من غيره‏,‏ وبه يتَّصف المُحقِّق بصفة المُجْتهد‏.‏

قال الرَّبيع‏:‏ لم أر الشَّافعي آكلا بنهار‏,‏ ولا نائما بليل‏,‏ لاهتمامه بالتَّصنيف‏.‏

وللعُلمَاء في تَصْنيفِ الحديث طَريقَانِ‏,‏ أجْوَدهُمَا‏:‏ تَصْنيفهُ على الأبْوَابِ‏,‏ فيذكر في كلِّ بَابٍ ما حضرهُ فيه‏,‏ والثَّانية‏:‏ تَصْنيفهُ عَلَى المَسَانيد‏.‏

وللعُلماء في تصنيف الحديث وجمعه طريقان ‏:‏

أجودهما‏:‏ تصنيفه على الأبواب الفِقْهية‏,‏ كالكُتب السِّتة ونحوها‏,‏ أو غيرها‏,‏ «كشعب الإيمان» للبيهقي و«البعث والنشور» له وغير ذلك‏.‏

فيذكر في كلِّ باب ما حضره مِمَّا وردَ فيه مِمَّا يدل على حُكْمه‏,‏ إثباتًا أو نفيًا‏,‏ والأولى أن يقتصر على ما صحَّ‏,‏ أو حَسُن‏,‏ فإن جمع الجميع فليُبيِّن عِلَّة الضعيف‏.‏

والثانية‏:‏ تصنيفه على المسانيد كل مسند على حدة‏.‏

قال الدَّارقُطْني‏:‏ أوَّل من صنَّف مُسندًا نُعيم بن حمَّاد‏.‏

قال الخَطِيب‏:‏ وقد صنَّف أسد بن مُوسى مُسندًا‏,‏ وكان أكبر من نُعيم سنًّا‏,‏ وأقدم سماعًا‏.‏

فيُحتمل أن يَكُون نُعيم سبقهُ في حَدَاثته‏.‏

وقال الحاكم‏:‏ أوَّل من صنَّف المسند على تراجم الرِّجال في الإسلام عُبيد الله بن موسى العَبْسي‏,‏ وأبو داود الطَّيالسي‏.‏

وقد تقدَّم ما فيه في نوع الحسن‏.‏

وقال ابن عَدي‏:‏ يقال‏:‏ إنَّ يحيى الحمَّاني أوَّل من صنَّف المسند بالكوفة‏,‏ وأوَّل من صنَّف المسند بالبصرة مُسدَّد‏,‏ وأوَّل من صنَّف المسند بمصر أسد السُّنة‏,‏ وأسد قبلهما وأقدم موتًا‏.‏

وقال العُقَيلي‏:‏ عن علي بن عبد العزيز‏,‏ سمعتُ يحيى الحمَّاني يَقُول‏:‏ لا تسمعُوا كلام أهل الكُوفة‏,‏ فإنَّهم يَحْسدونني لأنِّي أوَّل من جمع المسند‏.‏

فيَجْمع في ترجمةِ كُلِّ صحابي ما عندهُ من حَدِيثه‏,‏ صَحيحهِ وضَعيفهِ‏,‏ وعلى هَذَا له أن يُرَتِّبه على الحُرُوف‏,‏ أو عَلَى القَبَائل‏,‏ فيبدأ ببني هاشم‏,‏ ثمَّ بالأقْربِ فالأقْربِ‏,‏ نَسَبًا إلى رَسُول صلى الله عليه وسلم، أو على السَّوابق‏,‏ فبالعَشرة‏,‏ ثمَّ أهل بدر‏,‏ ثمَّ الحُديبية‏,‏ ثمَّ المُهَاجرين بينها وبين الفَتْح‏,‏ ثمَّ أصَاغر الصَّحَابة‏,‏ ثمَّ النِّسَاء بادئا بأمِّهَات المُؤمنين‏,‏ ومن أحسنهُ تَصْنيفهُ مُعلَّلاً‏,‏ بأن يَجْمع في كلِّ حديث‏,‏ أو بابٍ طُرقهُ‏,‏ واختلاف رُواته‏.‏

فيَجْمع في ترجمة كلِّ صحابي ما عنده من حديثه صحيحه وحسنه وضعيفه‏.‏

وعلى هذا لهُ أن يُرتبه على الحُروف في أسماء الصَّحابة‏,‏ كما فعل الطَّبراني‏,‏ وهو أسهل تَنَاولاً‏.‏

أو على القبائل‏,‏ فيبدأ ببني هاشم‏.‏

ثمَّ بالأقرب فالأقرب نسبًا إلى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

أو على السَّوابق في الإسلام فبالعشرة يبدأ‏.‏

ثمَّ أهل بَدْر‏.‏

ثمَّ الحُديبية‏.‏

ثمَّ المُهاجرين بينها وبين الفتح‏.‏

ثمَّ من أسلم يوم الفتح‏.‏

ثمَّ أصاغر الصَّحابة سِنًّا‏,‏ كالسَّائب بن يزيد‏,‏ وأبي الطُّفيل‏.‏

ثمَّ النِّساء بادئًا بأمِّهات المُؤمنين‏.‏

قال ابن الصَّلاح‏:‏ وهذا أحسن‏.‏

ومن أحسنه أي‏:‏ التَّصنيف تصنيفه أي‏:‏ الحديث مُعلَّلا بأن يَجْمع في كلِّ حديث أو باب طُرقه‏,‏ واختلاف رُواته فإن معرفة المُعلَّل أجل أنواع الحديث‏.‏

والأوْلَى جعلهُ على الأبْوَاب‏,‏ ليسهل تناوله‏,‏ وقد صنَّف يعقوب بن شيبة «مسنده» مُعلَّلا فلم يتم‏.‏

قيل‏:‏ ولم يُتمَّم مسند معلل قط‏,‏ وقد صنَّف بعضهم مسند أبي هُرَيرة مُعلَّلا في مئتي جُزء‏.‏

تنبيه‏:‏

من طرق التَّصنيف أيضًا جمعه على الأطراف‏,‏ فيذكر طرف الحديث الدَّال على بقيته‏,‏ ويجمع أسانيده إمَّا مستوعبًا‏,‏ أو مُقيدًا بكتب مخصوصة‏.‏

ويَجْمعُون أيضًا حديث الشِّيوخ‏,‏ كل شَيْخ على انْفَراده‏,‏ كمَالك وسُفيان‏,‏ وغيرهمَا‏,‏ والتَّراجم كمالك عن نافع عن ابن عُمر‏,‏ وهِشَام‏,‏ عن أبيه‏,‏ عن عائشة‏,‏ والأبواب‏,‏ كرؤية الله تَعَالَى‏,‏ ورَفْع اليدين في الصَّلاة‏.‏

ويجمعون أيضًا حديث الشِّيوخ‏,‏ كل شيخ على انفراده‏,‏ كمالك‏,‏ وسفيان وغيرهما كـ «حديث الأعْمَش» للإسْمَاعيلي‏,‏ و«حديث الفُضَيل بن عِيَاض» للنَّسائي‏,‏ وغير ذلك‏.‏

و يَجْمعُون أيضًا التَّراجم‏,‏ كمالك عن نافع عن ابن عُمر‏,‏ وهشام عن أبيه عن عائشة وسُهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هُريرة‏.‏

و يجمعون أيضًا الأبواب بأن يُفرد كل باب على حدة بالتَّصنيف «كرؤية الله تعالى» أفرده الآجُري و«رفع اليدين في الصَّلاة» و«القِرَاءة خلف الإمام» أفردهما البُخَاري‏,‏ و«النية» أفرده ابن أبي الدُّنيا‏,‏ و«القَضَاء باليمين والشَّاهد» أفرده الدَّارقُطْني‏,‏ و«القُنوت» أفردهُ ابن منده‏,‏ و«البَسْملة» أفردهُ ابن عبد البر وغيره‏,‏ وغير ذلك‏.‏

ويجمعون أيضًا الطُّرق لحديث واحد‏,‏ كطرق حديث‏:‏ «من كذبَ عليَّ‏.‏‏.‏‏.‏» للطَّبراني‏,‏ وطُرق حديث الحوض للضياء‏,‏ وغير ذلك‏.‏

وليَحْذر إخْراج تَصْنيفه‏,‏ إلاَّ بعد تَهْذيبه وتَحْريره‏,‏ وتَكْريرهِ النَّظر فيه‏,‏ وليَحْذر من تَصْنيف ما لَمْ يتأهَّل لهُ‏,‏ ويَنْبغي أن يَتَحرَّى العِبَارات الوَاضحة‏,‏ والاصْطلاحَات المُسْتعملة‏.‏

وليحذر من إخراج تصنيفه من يده إلاَّ بعد تهذيبه وتحريره وتكريره النظر فيه وليحذر من تصنيف ما لم يتأهَّل له فمن فعل ذلك لم يُفلح‏,‏ وضره في دينه وعلمه وعرضه‏.‏

قال المُصنِّف من زَوَائده‏:‏ ويَنْبغي أن يتحرَّى في تصنيفه العِبَارات الواضحة والموجزة والاصْطلاحات المُسْتعملة ولا يُبالغ في الإيجَاز‏,‏ بحيث يُفضي إلى الاستغلاق‏,‏ ولا في الإيضاح‏,‏ بحيث ينتهي إلى الركاكة‏,‏ وليَكُن اعتناؤه من التَّصنيف بِمَا لم يُسْبق إليه أكثر‏.‏

قال في شرح «المُهذَّب»‏:‏ والمُرَاد بذلك أن يَكُون هناك تصنيف يُغني عن مُصنَّفه من جميع أسَاليبه‏,‏ فإن أغْنَى عن بعضهَا فليُصنِّف من جنسه ما يزيد زيادات يُحتفل بها‏,‏ مع ضم ما فاته من الأسَاليب‏.‏

قال‏:‏ وليَكُن تَصْنيفه فيما يعم الانْتفاع به‏,‏ ويَكْثُر الاحتياج إليه‏.‏

وقد روينا عن البُخَاري في آداب طالب الحديث أثرًا لطيفًا نختم به هذا النَّوع‏:‏ أخبرني أبو الفضل الأزهري وغيره سماعًا‏,‏ أخبرنا أبو العبَّاس المَقْدسي‏,‏ أخبرتنا عائشة بنت علي‏,‏ أخبرنا أبو عيسى بن عِلاق‏,‏ أخبرتنا فاطمة بنت سعد الخير‏,‏ أخبرنا أبو نصر اليونارتي‏,‏ سمعت أبا محمَّد الحسن بن أحمد السَّمرقندي‏,‏ يقول‏:‏ سمعت أبا بكر محمَّد بن أحمد بن محمَّد بن صالح بن خلف‏,‏ يقول‏:‏ سمعتُ أبا ذر عمَّار بن مُحمَّد بن مَخْلد التميمي يقول‏:‏ سمعتُ أبا المُظفَّر محمَّد بن أحمد بن حامد البُخَاري قال‏:‏ لمَّا عُزِلَ أبو العبَّاس الوليد بن إبْرَاهيم بن يزيد الهمذاني عن قضاء الري ورد بُخَارى‏,‏ فحملني مُعلِّمي أبو إبْرَاهيم الخُتْلي إليه وقال له‏:‏ أسألكَ أن تُحدِّث هذا الصَّبي بما سمعت من مَشَايخنا‏,‏ فقال‏:‏ ما لي سماع‏,‏ قال‏:‏ فكيف وأنت فقيهٌ‏؟‏ قال‏:‏ لأنِّي لمَّا بلغتُ مبلغ الرِّجال تاقت نَفْسي إلى طلب الحديث‏,‏ فقصدتُ محمَّد بن إسماعيل البُخَاري‏,‏ وأعلمتهُ مُرَادي‏,‏ فقال لي‏:‏ يا بُنَي لا تدخل في أمر إلاَّ بعد معرفة حُدودهِ‏,‏ والوقُوف على مَقَاديره‏,‏ واعلم أنَّ الرَّجُل لا يصير مُحدِّثًا كاملاً في حديثه إلاَّ بعد أن يكتب أربعًا‏,‏ مع أربع‏,‏ كأربع‏,‏ مثل أربع‏,‏ في أربع‏,‏ عند أربع‏,‏ بأربع‏,‏ على أربع‏,‏ عن أربع‏,‏ لأربع‏,‏ وكل هذه الرُّباعيات لا تتم إلاَّ بأربع‏,‏ مع أربع‏,‏ فإذا تمَّت له كلها‏,‏ هان عليه أربع‏,‏ وابتلي بأربع‏,‏ فإذا صبر على ذلك أكرمه الله في الدُّنيا بأربع‏,‏ وأثابه في الآخرة بأربع‏.‏

قلتُ له‏:‏ فسِّر لي رحمكَ الله مَا ذكرتَ من أحوال هذه الرُّباعيات‏,‏ قال‏:‏ نعم أمَّا الأربعة الَّتي يحتاج إلى كتبها هي‏:‏ أخبار الرَّسُول صلى الله عليه وسلم وشَرائعه‏,‏ والصَّحابة ومقاديرهم‏,‏ والتَّابعين وأحوالهم‏,‏ وسائر العُلماء وتواريخهم‏.‏

مع أسْمَاء رِجَالها‏,‏ وكُنَاهم‏,‏ وأمْكِنتهم‏,‏ وأزْمنتهم‏.‏

كالتَّحميد مع الخُطَب‏,‏ والدُّعاء مع التَّرسل‏,‏ والبَسْملة مع السُّورة‏,‏ والتَّكبير مع الصَّلوات‏.‏

مثل المُسندات‏,‏ والمُرْسلات‏,‏ والموقُوفات‏,‏ والمقطُوعات‏.‏

في صِغَرهِ‏,‏ وفي إدْرَاكه‏,‏ وفي شَبَابه وفي كهولته‏.‏

عند شُغله‏,‏ وعند فَرَاغه‏,‏ وعند فَقْره‏,‏ وعند غِنَاه‏.‏

بالجِبَال‏,‏ والبِحَار‏,‏ والبُلْدان‏,‏ والبَرَاري‏.‏

على الأحْجَار‏,‏ والأصْدَاف‏,‏ والجُلود‏,‏ والأكْتَاف‏.‏

إلى الوقت الَّذي يُمكنه نَقْلها إلى الأوْرَاق‏,‏ عمَّن هو فوقهُ‏,‏ وعمَّن هو مثله‏,‏ وعمَّن هو دُونه‏,‏ وعن كتاب أبيهِ‏,‏ يتيقَّن أنَّه بخط أبيه دون غيره‏.‏

لوجه الله تعالى‏,‏ طالبًا لمرضاته‏,‏ والعمل بما وافق كِتَاب الله تعالى منها‏,‏ ونَشْرها بين طَالبيها‏,‏ والتَّأليف في إحياء ذكره بعده‏.‏

ثمَّ لا تتم له هذه الأشياء إلاَّ بأربع‏,‏ هي من كسب العبد‏:‏ معرفة الكِتَابة‏,‏ واللُّغة‏,‏ والصَّرف‏,‏ والنَّحو‏.‏

مع أربع‏,‏ هنَّ من عطاء الله تعالى‏:‏ الصحَّة‏,‏ والقُدْرة‏,‏ والحِرْص‏,‏ والحفظ‏.‏

فإذا صحَّت له هذه الأشياء‏,‏ هان عليه أربع‏:‏ الأهل‏,‏ والولد‏,‏ والمال‏,‏ والوطن‏.‏

وابْتُلي بأربع‏:‏ شماتة الأعداء‏,‏ وملامة الأصدقاء‏,‏ وطعن الجُهلاء‏,‏ وحسد العُلماء‏.‏

فإذا صبر على هذه المحن أكرمهُ الله تعالى في الدُّنيا بأربع‏:‏ بعز القَنَاعة‏,‏ وبهيبة اليقين‏,‏ وبلذة العلم‏,‏ وبحياة الأبد‏.‏

وأثَابهُ في الآخرة بأربع‏:‏ بالشَّفاعة لمن أراد من إخوانه‏,‏ وبظلِّ العرش‏,‏ حيث لا ظلَّ إلاَّ ظله‏,‏ ويسقي من أراد من حوض مُحمَّد صلى الله عليه وسلم، وبجوَار النَّبيين في أعلى عِليين في الجنَّة‏,‏ فقد أعلمتك يا بُني بمُجْملات جميع ما كنت سمعت من مشايخي متفرقًّا في هذا الباب‏,‏ فاقبل الآن على ما قصدتني له أو دع‏.‏